كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **


{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ‏}‏ أي‏:‏ سكن غضبه، وتراجعت نفسه، وعرف ما هو فيه، اشتغل بأهم الأشياء عنده، فـ ‏{‏أَخَذَ الألْوَاحَ‏}‏ التي ألقاها، وهي ألواح عظيمة المقدار، جليلة ‏{‏وَفِي نُسْخَتِهَا‏}‏ أي‏:‏ مشتملة ومتضمنة ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ أي‏:‏ فيها الهدى من الضلالة، وبيان الحق من الباطل، وأعمال الخير وأعمال الشر، والهدى لأحسن الأعمال، والأخلاق، والآداب، ورحمة وسعادة لمن عمل بها، وعلم أحكامها ومعانيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى اللّه ورحمته، وإنما يقبل ذلك وينقاد له، ويتلقاه بالقبول الذين ‏[‏هم‏]‏ ‏{‏لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخافون منه ويخشونه، وأما من لم يخف اللّه ولا المقام بين يديه، فإنه لا يزداد بها إلا عتوا ونفورا وتقوم عليه حجة اللّه فيها‏.‏

‏{‏و‏}‏ لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم ‏{‏اخْتَارَ مُوسَى‏}‏ منهم ‏{‏سَبْعِينَ رَجُلا‏}‏ من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا‏:‏ يا موسى، ‏{‏أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ فتجرأوا على اللّه جراءة كبيرة، وأساءوا الأدب معه، فـ ‏{‏أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ‏}‏ فصعقوا وهلكوا‏.‏

فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم، فصاروا هم الظالمين ‏{‏أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا‏}‏ أي‏:‏ ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة، تردعهم عما قالوا وفعلوا، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان، ويخاف من ذهاب دينه فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أنت خير من غفر، وأولى من رحم، وأكرم من أعطى وتفضل، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام، قال‏:‏ المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا، هو التزام طاعتك والإيمان بك، وأن من حضره عقله ورشده، وتم على ما وهبته من التوفيق، فإنه لم يزل مستقيما، وأما من ضعف عقله، وسفه رأيه، وصرفته الفتنة، فهو الذي فعل ما فعل، لذينك السببين، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين، وخير الغافرين، فاغفر لنا وارحمنا‏.‏

فأجاب اللّه سؤاله، وأحياهم من بعد موتهم، وغفر لهم ذنوبهم‏.‏

وقال موسى في تمام دعائه ‏{‏وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً‏}‏ من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح‏.‏

{‏وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً‏}‏‏:‏ وهي ما أعد اللّه لأوليائه الصالحين من الثواب‏.‏

{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ رجعنا مقرين بتقصيرنا، منيبين في جميع أمورنا‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ اللّه تعالى ‏{‏عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ‏}‏ ممن كان شقيًا، متعرضًا لأسبابه، ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ المعاصي، صغارها وكبارها‏.‏

‏{‏وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ الواجبة مستحقيها ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ومن تمام الإيمان بآيات اللّه معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظاهرًا وباطنًا، في أصول الدين وفروعه‏.‏

{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ‏}‏ احتراز عن سائر الأنبياء، فإن المقصود بهذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏

والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرط في دخولهم في الإيمان، وأن المؤمنين به المتبعين، هم أهل الرحمة المطلقة، التي كتبها اللّه لهم، ووصفه بالأمي لأنه من العرب الأمة الأمية، التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب‏.‏

{‏الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ‏}‏ باسمه وصفته، التي من أعظمها وأجلها، ما يدعو إليه، وينهى عنه‏.‏ وأنه ‏{‏يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه‏.‏

{‏وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏ وهو‏:‏ كل ما عرف قبحه في العقول والفطر‏.‏

فيأمرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والبر، والنصيحة، وما أشبه ذلك، وينهى عن الشرك باللّه، وقتل النفوس بغير حق، والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب، والفجور، ونحو ذلك‏.‏

فأعظم دليل يدل على أنه رسول اللّه، ما دعا إليه وأمر به، ونهى عنه، وأحله وحرمه، فإنه ‏{‏يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ من المطاعم والمشارب، والمناكح‏.‏

{‏وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ‏}‏من المطاعم والمشارب والمناكح، والأقوال والأفعال‏.‏

{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر فيه، ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال‏.‏

{‏فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ‏}‏ أي‏:‏ عظموه وبجلوه ‏{‏وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُن ـزلَ مَعَهُ‏}‏ وهو القرآن، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات، ويقتدى به إذا تعارضت المقالات، ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ الظافرون بخير الدنيا والآخرة، والناجون من شرهما، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح‏.‏

وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي، ويعزره، وينصره، ولم يتبع النور الذي أن ـزل معه، فأولئك هم الخاسرون‏.‏

ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل، إلى اتباعه، وكان ربما توهم متوهم، أن الحكم مقصور عليهم، أتى بما يدل على العموم فقال‏:‏

{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم‏.‏

{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السموات وَالأرْضِ‏}‏ يتصرف فيهما بأحكامه الكونية والتدابير السلطانية، وبأحكامه الشرعية الدينية التي من جملتها‏:‏ أن أرسل إليكم رسولا عظيما يدعوكم إلى اللّه وإلى دار كرامته، ويحذركم من كل ما يباعدكم منه، ومن دار كرامته‏.‏

{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ لا معبود بحق، إلا اللّه وحده لا شريك له، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله، ‏{‏يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ أي‏:‏ من جملة تدابيره‏:‏ الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، الذي جعل الموت جسرا ومعبرا يعبر منه إلى دار البقاء، التي من آمن بها صدق الرسول محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطعًا‏.‏

{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ‏}‏ إيمانا في القلب، متضمنا لأعمال القلوب والجوارح‏.‏ ‏{‏الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ آمنوا بهذا الرسول المستقيم في عقائده وأعماله، ‏{‏وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏في مصالحكم الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالًا بعيدًا‏.‏

‏[‏159‏]‏ ‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ جماعة ‏{‏يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم، ويعدلون به بينهم في الحكم بينهم، بقضاياهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام، وأن اللّه تعالى جعل منهم هداة يهدون بأمره‏.‏

وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية‏.‏

‏[‏160‏]‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ‏}‏ أي‏:‏ قسمناهم ‏{‏اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا‏}‏ أي‏:‏ اثنتي عشرة قبيلة متعارفة متوالفة، كل بني رجل من أولاد يعقوب قبيلة‏.‏

{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ‏}‏ أي‏:‏ طلبوا منه أن يدعو اللّه تعالى، أن يسقيهم ماء يشربون منه وتشرب منه مواشيهم، وذلك لأنهم ـ واللّه أعلم ـ في محل قليل الماء‏.‏

فأوحى اللّه لموسى إجابة لطلبتهم ‏{‏أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ‏}‏ يحتمل أنه حجر معين، ويحتمل أنه اسم جنس، يشمل أي حجر كان، فضربه ‏{‏فَانْبَجَسَتْ‏}‏ أي‏:‏ انفجرت من ذلك الحجر ‏{‏اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ جارية سارحة‏.‏

{‏قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قد قسم على كل قبيلة من تلك القبائل الاثنتي عشرة، وجعل لكل منهم عينا، فعلموها، واطمأنوا، واستراحوا من التعب والمزاحمة، والمخاصمة، وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم‏.‏

{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ‏}‏ فكان يسترهم من حر الشمس ‏{‏وَأَنـزلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ‏}‏ وهو الحلوى، ‏{‏وَالسَّلْوَى‏}‏ وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها، فجمع اللّه لهم بين الظلال، والشراب، والطعام الطيب، من الحلوى واللحوم، على وجه الراحة والطمأنينة‏.‏

وقيل لهم‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ حين لم يشكروا اللّه، ولم يقوموا بما أوجب اللّه عليهم‏.‏

{‏وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ حيث فوتوها كل خير، وعرضوها للشر والنقمة، وهذا كان مدة لبثهم في التيه‏.‏

‏[‏161‏]‏ ‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ‏}‏ أي‏:‏ ادخلوها لتكون وطنا لكم ومسكنا، وهي ‏(‏إيلياء‏)‏ ‏{‏وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ قرية كانت كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، رغيدة العيش، فلذلك أمرهم اللّه أن يأكلوا منها حيث شاءوا‏.‏

‏{‏وَقُولُوا‏}‏ حين تدخلون الباب‏:‏ ‏{‏حِطَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ احطط عنا خطايانا، واعف عنا‏.‏

{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ أي‏:‏ خاضعين لربكم مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، فأمرهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال‏:‏ ‏{‏نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَن ـزيدُ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ من خير الدنيا والآخرة، فلم يمتثلوا هذا الأمر الإلهي، بل ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عصوا اللّه واستهانوا بأمره ‏{‏قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ فقالوا بدل طلب المغفرة، وقولهم‏:‏ ‏{‏حِطَّة‏}‏ ‏(‏حبة في شعيرة‏)‏، وإذا بدلوا القول ـ مع يسره وسهولته ـ فتبديلهم للفعل من باب أولى، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على أستاههم‏.‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ‏}‏ حين خالفوا أمر اللّه وعصوه ‏{‏رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ أي‏:‏ عذابا شديدا، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات السماوية‏.‏

وما ظلمهم اللّه بعقابه وإنما كان ذلك ‏{‏بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخرجون من طاعة الله إلى معصيته، من غير ضرورة ألجأتهم ولا داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم‏.‏

‏[‏163‏]‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اسأل بني إسرائيل ‏{‏عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ أي‏:‏ على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم‏.‏

{‏إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ‏}‏ وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم ‏{‏يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا‏}‏ أي‏:‏ كثيرة طافية على وجه البحر‏.‏

{‏وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا ذهب يوم السبت ‏{‏لا تَأْتِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ تذهب في البحر فلا يرون منها شيئًا ‏{‏كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حفرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق‏:‏

‏[‏164‏]‏ معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا بذلك‏.‏

وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم‏.‏

وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ كأنهم يقولون‏:‏ لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم اللّه، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه، إما بهلاك أو عذاب شديد‏.‏

فقال الواعظون‏:‏ نعظهم وننهاهم ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لنعذر فيهم‏.‏

‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم‏.‏

وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي‏.‏

{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم‏.‏

‏{‏أَنْجَيْنَا‏}‏ من العذاب ‏{‏الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ‏}‏ وهكذا سنة اللّه في عباده، أن العقوبة إذا نـزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏.‏

{‏وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ وهم الذين اعتدوا في السبت ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ أي‏:‏ شديد ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}

وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين، لأن اللّه خص الهلاك بالظالمين، وهو لم يذكر أنهم ظالمون‏.‏

فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم، وأن اللّه سيعاقبهم أشد العقوبة‏.‏

‏[‏166‏]‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ‏}‏ قولا قدريًا‏:‏ ‏{‏كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ فانقلبوا بإذن اللّه قردة، وأبعدهم اللّه من رحمته، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال‏:‏

‏[‏167‏]‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ أعلم إعلامًا صريحًا‏:‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ أي‏:‏ يهينهم، ويذلهم‏.‏

{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ‏}‏ لمن عصاه، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ لمن تاب إليه وأناب، يغفر له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات، وقد فعل اللّه بهم ما أوعدهم به، فلا يزالون في ذل وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم عَلَمٌ‏.‏